عبد الله القصيمي: الأصولي المنشق



أنا هذه الأيام متفرغ تماماً لقراءة أعمال الكاتب السعودي الراحل عبد الله القصيمي (1907 ــ 1996): أشهر الملحدين العرب في العصر الحديث وأكثرهم إثارة للجدل، ليس بسبب إلحاده بالتحديد، ولكن لمفارقات مساره الفكري الموسوم بتقلبات وتحولات حادة وجذرية ما تزال غير مقروءة بشكل كامل حتى الآن.

فالرجل بدأ حياته الفكرية في الثلاثينيات من القرن الماضي سلفياً متحمساً، وكانت له صولات مشهودة في الدفاع عن العقيدة السلفية (الوهابية تحديداً) التي كانت تمثل بالنسبة له "العقيدة السليمة الصحيحة"، حتى إنه تحمل الطرد من الأزهر في العام 1932 لأنه هاجم أحد علمائه بسبب كتابته مقالاً يتهم فيه الوهابيين بالجهالة، بعدها ألف عدة كتب فقهية انتقد فيها الأزهريين بمنتهى العنف، فاكتسب شهرة واسعة في أوساط الرأي العام السلفي في مصر والسعودية، وزادت شهرته بعد أن دخل في سجال فكري مع بعض الليبراليين المصريين في ذلك العصر (محمد حسين هيكل مثلاً بسبب كتابه عن "حياة محمد")، فارتفعت أسهمه أكثر، وصار ملء السمع والبصر، وهنا أصدر كتابه "الثورة الوهابية" (1936)، وهو كتاب دعائي يروج للفكرانية الوهابية وللدولة السعودية الناشئة بطريقة مثالية، ثم كتابه الشهير في نقد / تكفير الشيعة "الصراع بين الإسلام والوثنية" (1937) الذي صنع منه أيقونة نادرة عند الوهابيين في ذلك الوقت، حتى وصل صيته إلى الملك عبد العزيز بن سعود شخصياً، فاهتم به وأوصى به خيراً، وكانت الذروة عندما أُثني عليه في منابر الحرم واعتُبر من أعلام المدافعين عن حرمة الإسلام (نظم إمام الحرم وخطيبه آنذاك الشيخ عبد الظاهر أبو السمح قصيدة كاملة في مدحه) بل إن بعض المتحمسين من شدة إعجابهم به قالوا إنه "أوتي مهر الجنة، ولن يضيره ما يفعل بعد ذلك".

كان القصيمي، إذاً، في طريقه إلى أن يصبح واحداً من أساطين الوهابية في العصر الحديث، وكانت الطريق أمامه ممهدة ليأخذ هذا الموقع، بيد أن لله في خلقه شئون، ولا يمكن أبداً التنبؤ بما يمكن أن يصير إليه الإنسان في المستقبل.

ففي لحظة واحدة، ودون مقدمات واضحة، صدم السلفي المتشدد الجميع عندما اتخذ لنفسه مساراً مناقضاً تماماً لما كان عليه، تغير حال الرجل، وانقلب انقلاباً كاملاً على تاريخه، وبدأ ينفض عقله وقلبه من اليقينيات و المقدسات الدينية كلها، ثم ارتد عن الإسلام، وأصبح ملحداً لا يشق له غبار، يشعل الحرائق في كل مكان بكتاباته الاستفزازية التي تكسر الطابوهات الدينية بلا هوادة، وقد كانت البداية مع كتابه المثير "هذي هي الأغلال" (1946) الذي كشف فيه عن عقل بات يحلق بعيداً جداً عن التصورات الطوباوية للخطابة السلفية (الوهابية)، لكنه ما يزال محتفظاً، بقدر ما، ببقية من إيمان (أي أن نقده حتى تلك اللحظة كان موجهاً للفكر الديني / الإسلامي وليس للدين / الإسلام نفسه)، ثم ازداد الأمر وضوحاً مع توالي كتبه: "العالم ليس عقلا" (1963)، "عاشق لعار التاريخ" (1965)، "هذا الكون ما ضميره" (1966)، "كبرياء التاريخ في مأزق" (1966)، "أيها العار إن المجد لك" (1971)، "فرعون يكتب سفر الخروج" (1971)، "الإنسان يعصى.. لهذا يصنع المعجزات" (1972)، "العرب ظاهرة صوتية" (1977)، "الكون يحاكم الإله" (1981)، "يا كل العالم لماذا أتيت؟" (1986)، التي أثبت فيها، واحداً بعد الآخر، أنه أصبح فعلياً خارج مدار الإسلام بشكل كامل ونهائي، وهكذا انقطع الرجل كلياً عن ماضيه، ودمر كل الجسور التي تربطه بمعتقداته السابقة، ما جر عليه كثيراً من المتاعب، وأغضب الدوائر الرسمية في السعودية لكونه من المحسوبين عليها، حتى وصل الأمر بالملك إلى تخصيصه برسالة طالبه فيها بالتوبة والرجوع إلى الحق، لكنه ظل ثابتاً على موقفه، وفي سبيل ذلك لقي ما لقي من العداوات والملاحقات وهدر الدم والطرد والاغتراب والعزلة والمنع دون أن يتراجع أو حتى يفكر في التراجع عن اختياراته الفكرية الصادمة.

ولئن حير هذا التحول الراديكالي الجميع حتى الآن، إذ لم يستطع أحد من الذين نقبوا في سيرته (وهم كُثر) أن يحدد بالضبط العوامل الحقيقية التي جعلت القصيمي ينقلب على إيمانه وقناعاته ويرتد إلى الإلحاد بهذا الشكل الجذري العنيف والفجائي، فإن الأكيد أن الرجل كان أشهر من نار على علم فكرياً وإعلامياً في فترة ما من التاريخ العربي الحديث، فقد أثارت رؤاه وتصوراته وتحليلاته النقدية التي لم توفر ممنوعاً في الاجتماع الفكري والسياسي العربي إلا اقتحمته ونبشت في أعماقه إعجاب كثير من المفكرين الذين استقبلوها بالترحاب وتحمسوا لها بشدة (مثلاً: كتاب المفكر خالد محمد خالد "من هنا نبدأ" الذي أثار جدلاً واسعاً وقت صدوره في العام 1950 هو في معظمه تنويع على أفكار القصيمي التي تضمنها كتابه "هذي هي الأغلال")، فتشكل في الأوساط الفكرية العربية شيء اسمه "ظاهرة القصيمي" التي امتدت وتوسعت وفجرت نقاشات ومطارحات نقدية في منتهى الأهمية حول الإسلام / المسلمين / التاريخ العربي / المجتمع العربي / العقل العربي / المفاهيم العربية / التقاليد العربية (خاصة بعد هزيمة 67)، وتوزع المثقفون ما بين رافض له ومحذر من خطره (وهم الأكثرية، نذكر منهم سيد قطب الذي اعتبره مجرد منافق "يريد أن يطعن الطعنة في صميم الدين" وهاجمه بعنف في أكثر من مقال محذراً من الانسياق وراء "كفرياته")، ومؤيد متحمس له ومدافع عن حقه في التعبير عن أفكاره بحرية (الشاعر أنسي الحاج مثلاً الذي كتب يقول: "هذا الرجل القادم من الصحراء، الرافض كل شيء، الحر في وجه كل شيء، يتكلم كالشهيد الحي. ماذا يريد؟ يريد أن يفرغ الدنيا العربية من نفسها ويؤلفها على الحرية والعقل والكرامة. كتبه فضيحة تاريخية، فضيحة أن يكون العقل العربي قد ظل حتى الآن خالياً من عبد الله القصيمي")، وعلى كل حال، شهدت الفترة الممتدة بين العامين 1967 و 1972 ذروة شهرة القصيمي، فقد انتشرت أفكاره على نطاق واسع، وظل اسمه يتردد في الأوساط الثقافية بلا انقطاع، إلا أن هذه الشهرة ما لبث أن تراجعت دون أسباب واضحة، فابتداء من الثمانينيات، بدأت الأضواء تنحسر عنه تدريجياً، وأُسدل ستار من الصمت على أعماله، ونتيجة لذلك، انسحب الرجل من الحياة العامة، وعزل نفسه في بيته، وظل على هذه الحال: مهملاً منسياً إلى أن توفي في أحد مستشفيات القاهرة في يناير 1996 .




الحقيقة أن أفكار القصيمي، وإن كانت قد تعرضت لوابل من الهجوم والتسفيه والتجريح، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن بعضاً منها، خاصة تلك التي تعرضت للإشكاليات السياسية والفقهية والاجتماعية والفكرية التي تؤثث فراغات الحالة العربية الراهنة (المسائل المرتبطة بالمجال السوسيو ــ سياسي العربي وإشكالية تخلف المجتمعات العربية تحديدا)، هي أفكار معتبرة وجديرة بالتفكير والتأمل. صحيح أنه لم يقدم في مجمل أعماله منظومة فكرية متماسكة ومحكمة يمكن أن ترقى إلى مستوى "النظرية"، فمعظم كتاباته عبارة عن تأملات وخواطر منثورة بلا ترتيب منهجي، إلا أن هذه التأملات والخواطر، المرسومة في لغة شعرية جميلة، والمعجونة بسخرية مرة ولاذعة، تسلط الضوء باقتدار على كثير من مكامن الخلل في العقل العربي / الإسلامي الحديث.

هذا ونشير إلى أن الدراسات والأطروحات التي تناولت سيرة وأفكار القصيمي وموقعه ومكانته في الحياة الفكرية العربية الحديثة كثيرة جداً، إلا أن أفضلها وأشملها وأكثرها جديةً وحياداً وتوثيقاً هو كتاب / أطروحة الألماني يورغن فازلا: "من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق عبد الله القصيمي" (1996) الذي تناول فيه حياة هذا المفكر المغيّب ومسار تحولاته الفكرية من خلال ثلاث مراحل: مرحلة الالتزام الديني الكامل (سلفي وهابي متشدد)، مرحلة النقد الداخلي للإسلام (كتابه "هذي هي الأغلال")، مرحلة النقد المعادي للإسلام (مرحلة الإلحاد).

أنصح بالاهتمام بهذا المفكر المفترى عليه وقراءة كتبه الممنوعة.. إن لم يكن للاستفادة بشكل مباشر من مراجعاته النقدية، فلتنشيط العقل واستفزاز ملكة التفكير والمساءلة التي خصنا الله بها فأهملناها حتى تآكلت وتفسخت كما تآكل وتفسخ كل شيء من حولنا.