يقول آينشتاين: «دينٌ من دون علمر أعمى، وعلمٌ من دون دينٍ أعرج»، هاتان القوّتان؛ العلم والدين، تؤثّران على الفكر الإنساني، تجعلان الفكر في حالة انقسام وتواتر بينهما، حيث تصطدمان ببعضهما البعض، قوة الّدين تؤّثّر على الفكر بشكل هائل، وعبر التاريخ وحتى الآن، يجد أغلب الجنس البشري ملاذه في الدين للإجابة عن الأسئلة الكبيرة، لكن عندما جاء العلم بدلائل مقنعة، أثبت بطلان بعض الأشياء الخارقة حسب المفهوم الدينيّ.
راودت الإنسان أسئلة شديدة التعقيد، خاصّة تلك المتعلّقة بنشأة الكون والله، من دون التوصّل إلى حلّ أو جواب شافٍ لها، حاول من خلال تلك الأسئلة أن يكتشف معنىً أعمق لحياته، أن يصل إلى رؤية واضحة بشأن وجوده في هذا الكون الغريب، لكن كان يكتفي بإنهاء السؤال ببعض الآيات والتعاويذ، ذلك الإنهاء كان لتهدئة ما بداخله من قلق وخوف كبيرين، والاستمرار في نقاش كهذا يخالف الشريعة، فالتأثير الدينيّ هو السائد في كوكبنا. أمّا البعض الآخر فقال باستحالة أن تكون هذه القوانين الكونيّة قد وجِدت من قبيل الصدفة، فآثر أن يستمرّ في نقاشه، ولاسيّما بعد اكتشاف نظرية الكمّيّة للفيزيائيّ الألماني «ماكس بلانك» ونظرية النسبيّة لـ «ألبيرت أينشتاين» في بدايات القرن العشرين. فالفيزياء الحديثة اتّفقت إلى حدّ كبير مع معتقداتهم وتصوّراتهم عن العالم، وأعطتهم شعوراً بتقدير وجودهم والقيمة التي يرون بها أنفسهم. وممّا زاد قوة اعتقادهم بالفيزياء الحديثة هو أنّ بعض الأشياء الخارقة في زمن مضى أصبحت الآن في متناول اليد بعد تقدّم العلم، واختلفت الرؤية إليها عمّا كانت في الماضي، فتحوّل الاتّجاه إلى العلم في اكتشاف كلّ ما هو ميتافيزيقيّ.
في كتاب «الله والفيزياء الحديثة» يعرض الفيزيائي بول ديفيس بلغة واضحة أهمّ الأسئلة المتعلّقة بنشأة الكون، جلّ تركيزه كما ذكر في مقدّمته للكتاب حول أسئلة الوجود الأربعة الكبيرة وهي:
1- لماذا تكون قوانين الطبيعة على ما هي عليه؟
2- لماذا يتألّف الكون من هذه الأشياء الموجودة فيه؟
3- كيف ظهرت تلك الأشياء؟
4- كيف حقّق الكون تنظيمه؟
نجد أنّ هذا الكتاب موجّه لجميع القرّاء، للمؤمن والملحد على حدٍّ سواء، وأنّ ما ورد في الكتاب، حسب تعبيره، هي آراؤه الشخصية، إدراكه للكون، ودافعه لكتابته هو اقتناعه بوجود الكثير الممتع ممّا يجب أن نعرفه عن العالم.
ينقسم الكتاب إلى سبعة عشر فصلاً بعد المقدّمة، هي على التوالي 1- العلم والدين في عالم متغيّر 2- التكوين 3-هل خلق الله الكون؟ 4- لماذا يوجد هناك كون ؟ 5- ما الحياة؟ شموليّة ضدّ التبسيط 6- العقل والروح 7- النفس 8- العامل الكمّي 9-الزمن 10- الإرادة الحرّة والتصميم 11- تركيب المادّة الأصلي 12- صدفة أو تصميم 13- الثقوب السوداء والفوضى الكونيّة 14- المعجزات 15- نهاية الكون 16- مفهوم الفيزيائيّ عن الطبيعة.
في الفصل الأول المعنون بـ «العلم والدين في عالم متغيّر»، يتحدّث عن تأثير العلم في حياة البشر من دون فهم لمبادئه أو حتى السؤال عن أصل بعض الأشياء، يجد أنّ المذاهب الدينية أكثر إقناعاً من المناقشات العلمية لدى الناس فيقول: «العلم، إذاً، قد غزا حيواتنا، لغاتنا وأدياننا، لكن ليس على المستوى الفكريّ، فالأغلبية الكبيرة من الناس لا يفهمون المبادئ العلميّة ولا حتّى يبدون اهتماماً بها»ص3. ويقول فيما يتعلق بالدين: «بالنسبة لأكثر الناس في التاريخ البشري، رجالاً ونساءً قد تحوّلوا إلى الدين ليس فقط لأجل الإرشاد الأخلاقيّ، بل أيضاً للإجابة عن أسئلة الوجود الأساسيّة، كيف خُلق الكون وكيف سينتهي؟ ما أصل الحياة والبشرية؟ فقط في القرون الأخيرة بدأ العلم بإسهاماته في مثل هذه القضايا»ص5.
يستهلّ الفصل الثاني «التكوين» بمقطع من سفر التكوين «في البدء خلق الله السماء والأرض»ص9، حيث يعالج لغز التكوين في ضوء الاكتشافات الكونية الحديثة، مع أصل الكون ككلّ. كما أنّه يتحدّث عن أصل الكون من الناحية العلميّة فيقول: «هذه الأيام أغلب الكوزمولوجيّين والفلكيّين يعودون إلى النظرية التي تقول: كان هناك بالفعل خلق قبل ثماني عشرة مليار سنة، عندما اندفع العالَم الفيزيائيّ إلى الوجود في انفجار رهيب معروف على صعيد واسع بـ «الضربة الكبرى»، وهناك العديد من الأدلّة التي تدعم هذه النظرية المدهشة»ص10.
تتوالى الفصول التي يعتمد فيها ديفيس العلم إماما له، يتقدّم في حقل العلم محاولاً التوجّه إلى القارئ ليخلق طمأنينة علمية تفوق تلك الطمأنينة الدينيّة المظنونة. ثمّ يتحدّث ديفيس في الفصل السابع «النفس» عن النفس البشرية، ذاكرتها، مدى تأثير ها على الجسد وارتباطها به، «ماذا نكون؟ كلّ واحد منّا قد دفن عميقاً ضمن وعيه إحساساً قويّاً بالذات الشخصيّة. عندما نكبر ونتطوّر، أذواقنا وآراؤنا تتغيّر، وجهة نظرنا عن العالم تختلف، عواطف جديدة تظهر. من خلال ذلك كلّه، لم نشكّ بأننا الشخص نفسه. لدينا هذه التجارب المتغيّرة، والتجارب تحدث لنا، لكن ما هي الـ «نحن» التي لديها التجارب؟ ذاك هو لغز النفس الطويل المدى»ص88.
يناقش ديفيس في هذا الفصل مجموعة من الفلاسفة واللاهوتيين والفيزيائيين ومنهم هوفستادلر الذي يقول في كتابه الحلقات الغريبة: «…النفس تأتي إلى الوجود في اللحظة التي يكون بمقدورها انعكاس ذاتها…»ص96. كما نلاحظ بأنّه يشير في الفصل نفسه إلى فهمه للنفس متطرّقاً إلى ما ناقشه الفلاسفة: «الوعي البشريّ لا يتألّف فقط من الوعي، بل من وعي النفس- نعرف بأنّنا نعرف»ص92.
يجري ديفيس في بعض فصوله حوارات بغية عرض المتناقضات وسردها على لسان المتحاورين، فيشير بذلك إلى الصراع الموجود بين العلم والدين، من خلال طرح موضوع المعجزات، هل هي من فعل الله أم ظواهر طبيعيّة لا علاقة لله بها. كذلك في مسألة الزمن، لا يجد الفيزيائيّ الزمن سلسلة مؤلفة من الماضي والحاضر والمستقبل، موقفه من الزمن مشترط بتجاربه بالإضافة إلى تأثيرات النسبيّة، ويكون على اختلاف مع المتخصّصين في السيكولوجيا والفلسفة، وقد أورد حواراً في الفصل التاسع المعنون بـ «الزمن»، يجري الحوار بين الفيزيائي والشكّاك.. يقول الشكّاك: «أنا ما زلت غير مقتنع تقريباً، فكلّ أفكارنا اليوميّة والنشاطات، تركيب لغتنا المتوتّر، آمالنا، مخاوفنا ومعتقداتنا متجذّرة في التمييز الأساسيّ للماضي والحاضر والمستقبل. أنا خائف من الموت، لأنني لم أواجهه بعد. أنا قلق بشأن ما سيأتي بعده؟ لكن لست خائفاً لأنّني لا أعرف وجودي قبل الولادة، لا يمكننا أن نكون خائفين من الماضي. الماضي غير قابل للتعديل مرّة أخرى، نعرف ما قد حدث بسبب ذاكرتنا، لكن لا نعرف المستقبل، ونعتقد بأنّه غير مقرّر، إذ أنّ أفعالنا تستطيع أن تغيّره. أمّا بالنسبة للحاضر، حسن، تلك هي لحظتنا للاتصال مع العالم الخارجيّ، حينما تستطيع عقولنا أن تنظم أجسادنا للفعل»ص130. في حين أنّ الفيزيائيّ يعرض آراءه عن الزمن ضمن حواره محاولاً إقناع الشكّاك قائلاً: «لا على الإطلاق، في العالم الخارجيّ ليس هناك ماضٍ، حاضر أو مستقبل. كيف يمكن أن يكون الحاضر محدّداً بحجج. إنّه مبدأ سيكولوجيّ صرف»ص128. ويضيف في جزء آخر من محاورته للشكّاك: «كلّ يوم يدعى اليوم في ذلك اليوم، كلّ لحظة تدعى «الآن» حينما نلاقيها، التقسيم إلى الماضي والحاضر هي نتيجة الفوضى اللغويّة…»ص128. ثمّ يقول في موضع آخر ضمن الحوار: «التغيير يحدث لأنّ الأشياء تتحرّك من حولنا عبر الفضاء في الزمن، الزمن لايتحرّك…»ص130. أما حواره غير الحاسم في الفصل الرابع عشر تحت عنوان «المعجزات»، بين المؤمن بالمعجزات وبين الشكّاك بأمرها، يظهر جوهر الصراع بين العلم والدين، حينما يتعلق الأمر بالأشياء الخارقة كالمعجزات، فالشخص المؤمن يرى أفعال الله من حوله، ولا يجد ما هو متضارب مع الأحداث العجيبة، لأنّه يراها وجهاً آخر لفعل الله في العالم، على النقيض منه يفضّل الآخر أن يفكر العالم وفقاً للقوانين الطبيعية، معتبراً المعجزات كسوء تصرّف أو حدث باثولوجيّ يشوّه أناقة وجمال الطبيعة، كلّ منهما يجهد لإقناع الآخر في حواره. جاء في حوار المؤمن مخاطباً الشكّاك : «لا يمكنك أن تكون مطمئناً مع الحقيقة الصريحة من أنّ الكون موجود، ويجب أن يكون له تفسير، أعتقد أنّ الله هو ذلك التفسير، وقوّته مستخدمة في كلّ لحظة داعمةً معجزة الوجود، في أغلب الحالات يقوم بهذا بطريقة منظّمة - ما يمكن أن تسميّه قوانين الفيزياء - لكن من وقت لآخر ينفصل عن هذا النظام، وينتج أحداثاً دراماتيكيّة كتحذيرات أو علامات للكائن البشريّ، أو ليساعد المؤمن كما حدث عندما قسّم البحر الأحمر للعبريّين»ص196. يردّ الشكّاك في جزء من حواره: «المولّد أو الراديو اعتبرت أعمالاً خارقة عند أجدادنا، حيث لم يكونوا متآلفين مع الكهرومغناطيسيّة»ص192. ويقول: «ما السبب الممكن الذي يجعلك تصدّق قصة كتبت قبل مئات السنين على يد بعض المتطرّفين المؤمنين بالخرافات، روّجوا لذلك الصنف الدينيّ الخاص بهم لمنفعة شخصيّة»ص192-193.
ختاماً ناقش بول ديفيس كبار الفيزيائيين والسيكولوجيين واللاهوتيين والفلاسفة، موضّحاً الصراع المحتدم بين العلم والدين. لاشكّ أنّ هذه الأسئلة الكونية التي طرحها ديفيس ليست بالجديدة إلاّ أنّ الجديد فيها هو طريقة مناقشته، والاقتراب من الإجابة عنها، حيث يشرح بلغة واضحة قريبة للقارئ العاديّ، كيف أنّ الاكتشافات الأخيرة للفيزياء الحديثة قد نوّرت نظرتنا للعالم، كما أنّه يسلّط الضوء على الأسئلة التي أربكت الأديان، ولم تجد لها أجوبة تروي فضول الإنسان.
كتاب «الله والفيزياء الحديثة» يعتبر من ضمن أهمّ الكتب في الفيزياء الحديثة، وهو جدير بالقراءة، وتظهر الحاجة الماسّة لترجمته إلى العربية، خاصّة في وقت نعاني فيه من ضحالة الثقافة العلميّة، مقابل ترويج للثقافة الدينيّة التي من شأنها أن تبقي الأبواب مغلقة أمام العقل الساعي إلى الانفتاح والتنوير.
تعليقات
إرسال تعليق