قبل أن تُخترق الثوابت الفكرية التي تظل أحيانًا قرونًا طويلة سيدة الفكر بحيث لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير بأنه يمكن تغييرها، تظهر أفكار وتساؤلات تحاول المساس بهذه الثوابت التي تصبح في بعض الأحيان أشبه بالعقائد التي نقدسها أكثر مما نفهمها! والأمثلة على ذلك كثيرة في العلم، من المسلمة الخامسة في الهندسة الإقليدية، إلى الفزياء النيوتونية، إلى نظرية الانفجار الكبير كبداية لكوننا الحالي! ونحن نعرف اليوم إن العلم ينتهي دائمًا إلى اختراق الثوابت، وإلى تعديل نظرياته باستمرار. فخلال النصف الثاني من القرن العشرين بدأت التساؤلات بالظهور حول بداية الكون. هل الكون بدأ حقًا من نقطة أولى؟ وتحولت هذه التساؤلات إلى دراسات مع ظهور أفكار جديدة وكذلك مع طرح نظريات جديدة لتفسير الكون. لكن الاختراق الحقيقي لمسلمة بداية الكون من انفجار كبير كانت بحاجة إلى محاولة ذات بعد إعلامي، وهذا ما حصل مع كتاب بوغدانوف "Igor &Grichka Bogdanov, Avant le Big Bang, Grasset, 2 juillet 2004"، الذي لم يثر الجدال فقط حول هذه المسألة بل أثار اهتمام الرأي العالمي، العلمي والمجتمعي، حول الأبحاث النظرية في الكوزمولوجيا الحديثة. ومع أن أبحاث بوغدانوف تعرضت لنقد منهجي كبير، لكنها كانت أحد الأعمال التي حرضت العلماء أكثر على الكتابة بشكل مبسط نسبيًا لتوضيح هذه المسألة بعد أن كانت حكرًا على عدد محدود من المختصين. ولا يخفى علينا، عندما تبدأ مسائل البدايات تطرح بين أيدي الناس، سرعان ما تطرح تساؤلات تتعلق بالإيمان والإله، وهل كان الكون موجودًا قبل أن يُخلق؟ لكن لنستبق الأمور ونقول بوضوح، العلم يطرح تساؤلاته ونظرياته ليس للإجابة على هذا النمط من الأسئلة!
من جهة ثانية أثار كتاب آخر الجدل حول ما إذا كان يوجد زمن قبل الانفجار الكبير لمارتان بوجوالد Martin Bojowald ويعتمد فيه على نموذج "الثقالة الكمومية ذات العقد gravitation quantique à boucles (LQG) ليبرهن أنه حتى لو وجد مثل هذا الكون "ما قبل الانفجار الكبير" فإنه سيكون من المستحيل علينا أن ندرك بعض جوانبه. يقول بوجوالد مؤكدًا:
لقد تحققت منذ نحو ست سنوات أن هذه النظرية تسمح بتجنب الفرادة، لكن المعادلات التي استخدمتها في ذلك الوقت كانت معقدة جدًا بحيث كان من الصعوبة بمكان تحديد الشكل الدقيق للحالة الكمومية.
مع ذلك، فإن هذا الاختفاء للفرادة البدئية يسمح بتصور أن الكون استطاع أن يوجد قبل الانفجار الكبير في حالة "معاكسة" للتوسع الحالي. وهذا يعني أن الانفجار الكبير لم يميز بداية الكون، بل إنه كان عبارة عن مرحلة انتقالية، أو نوعًا من "الارتداد" لهذا الأخير، مرَّ من مرحلة انهيار إلى حالة توسع.
يتأسس البحث عن ما قبل البداية المفترضة لكوننا، فيما عرف بالانفجار الكبير أو البيغ بانغ Big Bang، على تطبيق نظرية الأوتار الفائقة على علم الكونيات. فذلك يؤدي إلى أن الانفجار الكبير لا يشكل بداية الكون بل نهاية حالة كونية سابقة! لكن لنتابع قصة هذا الارتحال إلى ما قبل الانفجار الكبير... وسنحاول أن نعرض الجانب الأساسي من فكرة الارتحال إلى ما قبل البداية ضمن عدد كبير جدًا من التصورات المطروحة اليوم لبناء نماذج يمكن أن تحاكي صيرورة وجود أكوان سابقة لكوننا.
يمكن طرح السؤال بشكل آخر، هل كان الانفجار الكبير هو بداية الزمان كما يقول أصحاب هذه النظرية، أم كان الكون موجودًا قبل ذلك، وكان الزمان والمكان قبل البداية؟ منذ نحو عشر سنوات كان مثل هذا التساؤل يثير موجة من الاستياء كما لو كنا ندنس مقدسات شيدها العلم. فبالنسبة لعلماء الكونيات لا معنى لمثل هذا التساؤل على الإطلاق. وتصور فترة زمنية سابقة للانفجار الكبير أشبه بالنسبة لهم بالبحث عن نقطة تقع شمالي نقطة الشمال القطبي! لا معنى لذلك على الإطلاق! فوفق نظرية النسبية العامة لأينشتين كان كوننا الذي يتوسع قد بدأ من لحظة عرفت بالانفجار الكبير، الأمر الذي يفترض محدودية الزمان الذي ظهر آنيًا مع المكان والطاقة – المادة. وقد تعدلت هذه الطريقة في رؤية الأمور خلال السنوات القليلة الأخيرة. فالكون عند ولادته كان متمركزًا في حيز من الصغر بحيث أن قوانين الفيزياء الكمومية هي التي كانت تنطبق عليه. وعند هذا المستوى من الصغر لا تعود نظرية النسبية العامة، وهي ليست نظرية كمومية، صالحة لفهم الانفجار الكبير. إن نظرية الأوتار التي بدأت تتطور منذ نحو ثلاثين سنة قادرة على أخذ زمام المبادرة، وفق بعض الفيزيائيين الكونيين اليوم، لتفسير مجريات الأمور في اللحظة صفر وذلك بتقديمها وصفًا كموميًا للجاذبية. وقد سمحت هذه النظرية مؤخرًا بوضع تصورين أو نموذجين كونيين – نموذج الكون قبيل الانفجار الكبير، والنموذج الانقلابي ekpyrotiqe – يصفان كونًا سابقًا للانفجار الكبير. وفي هذين السيناريوهين لا يكون للزمن بداية ولا نهاية، ويمكن أن يكون الكون القديم قد ترك آثارًا ملحوظة في الخلفية الإشعاعية للكون، أي في الإشعاع الذي صدر بعيد الانفجار الكبير والذي نكتشفه اليوم على شكل شعاع يأتينا من كافة أنحاء الكون.
إن رغبتنا اليوم بمعرفة أو على الأقل بأخذ ما حدث قبل الانفجار الكبير بعين الاعتبار في دراستنا لبداية الكون ليست سوى الانعكاس الجديد والحالي للتساؤلات القديمة ذاتها وللانعكاسات الفكرية والتأملية القديمة التي تتالت طيلة آلاف السنين حول أصل الكون. ففي كافة الثقافات، واجه الفلاسفة واللاهوتيون سؤال بداية الزمن وأصل العالم. ونعرف اليوم أن "شجرة أصولنا" تمر عبر تفرعات أولى أشكال الحياة، وتشكل النجوم، وتآلف أولى العناصر التي تعود إلى الطاقة التي كانت تغمر الفضاء البدئي.
فهل الزمن مستمر منذ "الأزل" أم هو ينطلق من نقطة ما، من جذر ما، من بداية ما؟ كان الفلاسفة اليونان قد ناقشوا هذه المسألة مطولاً، وقد دافع أرسطو عن غياب البداية بتأكيده على مبدأ أن لا شيء ينبثق من لا شيء. فإذا لم يكن بالإمكان للكون أن يولد من العدم، فلا بد أنه وجد دائمًا. ولهذا فإن الزمن يمتد لا بد منذ الأزل. وسيمتد إلى الأبد. لكن اللاهوتيين المسيحيين دافعوا عن وجهة النظر المعاكسة. وأكد القديس أغسطينوس أن الله موجود خارج إطار المكان والزمان وأنه قادر على خلق الزمان والمكان كما شكَّل مظاهر العالم الأخرى. أما ماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق العالم، فيجيب أغسطينوس إن الزمن نفسه كان جزءًا من الخلق الإلهي، فلم يكن ببساطة ثمة قبل الخلق! إنه لمن المدهش هذا التقارب الكبير بين فكر اللاهوتيين عمومًا، وما يقول به لاهوتيو فيزياء النسبية بشكل خاص اليوم، حيث لم يكن ثمة قبل الانفجار الكبير زمن، ولم يكن ثمة قبل، لأن الزمان ولد مع الكون!
تعليقات
إرسال تعليق